في يوم الاستقلال القومي للولايات المتحدة عام 1821، ألقى وزير الخارجية حينها جون كوينزي آدمز خطاباً عن السياسات الخارجية أمام الكونجرس. وكان السؤال الذي شغل جميع الأعضاء يومها هو كيفية الاستجابة لتلك الموجة العارمة من حركات التحرر الوطني التي اجتاحت المستعمرات التابعة للإمبراطورية الإسبانية الشاسعة في الجزء الغربي من الكرة الأرضية. وبينما كان ممكناً وصف آدمز بأنه داعية من دعاة القومية الأميركية، فهو بالقدر ذاته كان من أشد دعاة الاستثنائية الأميركية. ومع ذلك فقد جاء في الخطاب الذي ألقاه أمام الكونجرس: "أينما تم المساس بقيم الاستقلال والحرية، فلتكن هناك أميركا بروحها وقلبها وصلواتها". لكن لم يفت على آدمز أن يضيف قائلا: غير أن أميركا لن تتجاوز حدودها إلى دول أخرى بحثاً عن طغاة لتدمرهم، بل تكتفي بتمنيها سيادة الحرية والاستقلال لجميع الأمم والشعوب، بينما تحرص على حماية وترسيخ حرياتها وقيمها هي. وقد أصبحت تلك الكلمات التي ألقاها آدمز مصدر إلهام للخطاب السياسي الأميركي، وجعلت من صاحبها أحد أبرز القادة الدبلوماسيين الجمهوريين. ليس ذلك فحسب، بل يظل جوهر الكلمات التي ألقاها آدمز في ذلك الوقت، على صلة كبيرة براهن السياسات الخارجية الأميركية، خاصةً إذا ما طبقناها على واقع تصاعد الانتفاضة الشعبية ضد القذافي حالياً. فقد كرر البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية القول بضرورة التدخل العسكري في ليبيا بهدف تفادي حدوث كارثة إنسانية هناك فيما لو نفذ القذافي مذبحة جماعية ضد أولئك المتمردين الذين حملوا السلاح في وجهه بغية التخلص من نظامه. كما يلاحظ أن جوقة من المعلقين والمحللين السياسيين المؤيدين للإدارة قد رددوا صدى ذات المنطق الذي يروج له البيت الأبيض ووزارة خارجيته. ومن ذلك مثلا وصف محلل السياسات الخارجية ويليام جالستون -في مقال نشرته صحيفة "نيو ريبابليك" مؤخراً- ما يحدث في ليبيا بأنه "كارثة إنسانية". وفي الاتجاه ذاته حذر المحلل السياسي نيكولاس كريستوف -في مقال نشرته "نيويورك تايمز"- قائلاً: "علينا ألا ننسى أنه تم تفادي حدوث كارثة إنسانية في ليبيا حتى الآن". وفيما لو حدثت هذه الكارثة، فسوف تكون عقاباً مأساوياً لمن سعوا لإسقاط طاغية مراوغ وذكي، عرف كيف يعزل شعبه ويضطهده وينهب ثرواته بانتظام عبر العقود. لكن مهما يحدث في ليبيا، فإنه لا يمثل كارثة إنسانية بالمعنى الحقيقي، والذي يتطلب تدخلاً دولياً أو إقليمياً لدرئه. فبوسعنا جميعاً أن نعرّف الكارثة الإنسانية بأنها ذلك النوع من الكوارث التي تجعل أعداداً كبيرة من البشر في حاجة ملحة للمساعدات الإنسانية، بفعل ظروف قاهرة خارج إرادتهم ولا يستطيعون الإفلات منها: مثل الهزات الأرضية والتسونامي، أو المجاعات. كما يمكن وصف الحالة المعينة بأنها كارثة في حال مهاجمة أعداد كبيرة من البشر لمجرد هويتهم أو انتمائهم الديني أو الثقافي أو العرقي. وتمثل جرائم الهولوكوست أو الإبادة الجماعية لليهود على يد النازية مثالاً كلاسيكياً على هذا النوع من الكوارث الإنسانية. فلم يكن بوسع اليهود فعل شيء للهرب من الاضطهاد على أيدي النازيين في سنوات الحرب العالمية الثانية. ولم يكن باستطاعتهم الخضوع للهيمنة السياسية العرقية التي مارسها النازيون، ولا تغيير ديانتهم للنجاة بأرواحهم. وبالمثل ينطبق الأمر نفسه على الأرمنيين، ثم على قبائل التوتسي الرواندية، ومسلمي البلقان... الذين لم يتعرضوا لجرائم الإبادة الجماعية إلا لكونهم توتسي أو أرمنيين أو مسلمين. ومما لا ريب فيه أنه تقع على المجتمع الدولي مسؤولية التدخل في مثل هذه الظروف لحماية من لا حيلة لهم مما يتعرضون له من وحشية وتنكيل على أيدي جلاديهم. والسؤال الآن: هل يمتد واجب التدخل الإنساني هذا ليشمل الحالة الليبية؟ الواضح أن الذي يجري في ليبيا منذ بضعة أسابيع هو ثورة سياسية ضد نظام القذافي، ويبدو أنها تتجه سريعاً نحو التحول إلى حرب أهلية. ومن شأن هذه التطورات أن تتسم بقدر عال من الدموية والوحشية، وأن تكون لها عواقب مأساوية على جميع الأطراف. وربما يكون الثوار الذين حملوا السلاح في وجه القذافي شجعاناً وملهمين جداً، رغم أننا لا نعلم عنهم سوى النزر اليسير حتى الآن. لكن هل يمكن النظر إليهم كضحايا للنظام، على نحو ما كنا ننظر إلى اليهود أو قبائل التوتسي أو الأرمنيين أو مسلمي البلقان؟ وفيما لو قررنا تمديد واجب التدخل الإنساني لحماية المتمردين الليبيين، فإلى أين سينتهي بنا هذا التدخل؟ ثم هل يُستثنى الليبيون وحدهم من وحشية المعاملة التي يواجهها محتجون آخرون في عدة دول شرق أوسطية حالياً؟ الإجابة هي النفي بالطبع، خاصة إذا أخذنا بحالات عربية أخرى. وعليه يمكن الاستنتاج بأن هناك من يسعى إلى تمديد واجب التدخل الإنساني في ليبيا بشكل استثنائي ودون وجود مبررات مقنعة لذلك. إن بالإمكان التدخل العسكري في ليبيا، لكن ليس تحت مظلة "الواجب الإنساني". تم روتن محلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"